متاريس

Gaston Zvi Ickowicz, Saher Miari, Shahar Yahalom, Absalon
20.06.2023 - 10.05.2024
أمانة المعرض: كرميت جليلي

حيثما توجد سلطة توجد مقاومة، وفي الوقت نفسه، أو بالأحرى، للسبب نفسه، هذه لا تكون أبدًا في موقف خارجيّ نسبةً إلى السلطة. […] لذلك، فيما يتعلّق بالسلطة، ليس ثمّة مكان واحد هو مكان الرفض الكبير – روح التمرّد، محور كلّ أعمال التمرّد، القانون النقيّ للثوران. لا يوجد سوى مقاومات بصيغة الجمع وكلّ واحدة منها هي حالة خاصّة: المقاومات ممكنة، ضروريّة، غير متوقّعة، عفويّة، جامحة، متخاذلة، عنيفة، مقاومات منسّقة أو فرديّة، بدافع التفكير بالربح أو بدافع التضحية بالذات، من منطلق رفض أيّ مصالحة أو مساومة”.

  ميشال فوكو، “تاريخ الجنسانيّة I إرادة المعرفة”، عن الفرنسيّة: غبريئيل إش، إصدار هكيبوتس همئوحاد، 1996، ص. 66. (بالعبريّة)

متاريس، زجاج محطّم، حريق ودمار هي الصور البصريّة التي تتداعى في الذهن عند ذكر المصطلح “مقاومة”. لكنّ المقاومة لا تتعارض دائمًا مع هياكل السلطة. حتّى عندما تنشط ضدّها فهي جزء منها، وتتشارك معها في الأساليب، الموادّ والأشكال، وتقوم على هامشها أو تُعيد إنتاجها داخل نفسها. وبالتالي، فإنّ محاولة تقويض هياكل السلطة تنطوي أيضًا على إجراء تقويضيّ داخليّ؛ مقاومة السلطة هي أيضًا مقاومة للسلطة المعشّشة فيك – إنّها تحدّد آثارها داخلها، وتعارضها في خطوات متواصلة من البناء والتجديد. إنّ الراهن الإسرائيليّ يجسّد ذلك جيّدًا.

إنّ الانشغال بالعلاقة بين المقاومة والبناء في هذا المعرض تطوّر من خلال أعمال الفنّان أفشالوم (مئير إيشيل)، الذي وُلد في إسرائيل وعمل في فرنسا منذ عام 1987 حتّى وفاته المبكّرة في عام 1993. أعمال أفشالوم طوال سنوات نشاطه السبع شملت المباني والنماذج المعماريّة باللون الأبيض، أعمال الفيديو والرسومات، وتناولت القضايا المتعلّقة بمكان الجسد ضمن البنية الاجتماعيّة والسياسيّة.[1] كان مشروعه الأخير والأشمل، والذي أسماه Cellules (خلايا)، مكوّنًا من سلسلة تضمّ ستّ خلايا سكنيّة لفرد، والتي خطّط أن ينصبها في ستّ عواصم رئيسيّة حول العالم. تمّ تصميم هذه الخلايا وفقًا لمقاييسه، بتصميم بسيط وزهيد، وهي مبنيّة من خشب وكرتون ومطليّة باللون الأبيض، والغاية منها تقصّي إمكانيّة وجود حيّز للعزلة والتأمّل الداخليّ يحافظ على قربه من حياة المدينة. في الشرح المرافق للمعرض الذي قدّمه في متحف الفنّ الحديث في باريس (“Cells,” Musée d’Art Moderne de la Ville de Paris)، أشار أفشالوم إلى أعمال الخلايا الخاصّة به كجزء من جدليّة المقاومة:

“الخلية هي آليّة تتحكّم في تحرّكاتي. مع الوقت والعادة، ستصبح هذه الآليّة راحتي… ضرورة المشروع تنبع من القيود المفروضة… في أيدي عالم جماليّ تمرّ فيه الأشياء بعمليّتي تنميط وتوسيط… كنتُ أوَدّ أن أحوِّل هذه الخلايا إلى بيوتٍ لي، لكي أحدّد فيها مشاعري وأعتني بسلوكيّاتي. ستكون هذه البيوت وسيلة مقاومة لمجتمع يمنعني من أن أكون ما يجب أن أكونه.”

Absalon, Cellules, Musée d’Art Moderne de la Ville de Paris, 1993

يُعرَض في المعرض عملا فيديو يُعبّران، وفقًا لأفشالوم، عن نفس الجدليّة.[2] “اقتراح للسكن” (1991)، وهو الأقدم بين هذين العملين، صوَّره أفشالوم في بيئة مجرّدة لا يمكن فيها تحديد الممثّل، أو الأعمال التي يقوم بها أو الأشياء التي يستخدمها. ووصف الفيديو بأنّه استعارة مجازيّة لكيفيّة قيام الهياكل الاجتماعيّة بتنظيم وإملاء الحياة اليوميّة للفرد. في المقابل، في الفيلم المكمّل “حلول” (1992)، صوّر أفشالوم نفسه، في بيئة مألوفة، يقوم بأعمال روتينيّة، ووصفه بأنّه سلسلة من الحلول المقترحة للحياة نفسها، وليس مجازًا. في كلا عمليّ الفيديو، بُنيَ المبنى كمساحة بيتيّة توفّر الحماية للجسم، وفي الوقت نفسه تحدّه وتقمعه. إنّه مبنى ضيّق وخانق، لا يتيح المجال للحركة، ومبنيّ على غرار المباني التي تعمل فيها السلطة، ولكنّه أيضًا المكان الذي يرسّخ فيه أفشالوم نفسه كإنسان مقاوِم وكفنّان.

تظهر العلاقات بين المقاومة والبنية أيضًا في أعمال غاستون تسفي إيتسكوفيتس، شاحر يهلوم وساهر ميعاري، الذين ينشطون اليوم في إسرائيل. تتناول أعمالهم المقاومة كسيرورة يجب بناؤها داخليًّا، أوّلًا. يصبح الجبس، الكرتون، الحديد والخرسانة في أعمالهم ذات دلالة مزدوجة – على القمع ومقاومته، ويتمّ تفحّص الحدّ الرفيع والمراوغ القائم بينهما.

في العمل “نهاية طريق الخليل” يروي غاستون تسفي إيتسكوفيتس قصّة آلاف العمّال الفلسطينيّين الذين يعبرون كلّ صباح عبر حاجز 300 (“معبر راحيل”) من الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل. لا يقوم إيتسكوفيتس بتصوير العمّال، الحاجز أو الجنود. على مدى نحو أربع سنوات، أحيانًا يومًا بعد يوم، كان يصوّر مبنى عشوائيًّا، يبنيه مرّة بعد أخرى أحد العمّال، حامد أحمد صعب إرحيم طورة، وهو مبنى يتمّ تفكيكه مرّة بعد أخرى من قبَل السلطات الإسرائيليّة التي تحظر البناء في هذه المنطقة ونقل الأشياء من الضفّة الغربيّة إلى إسرائيل. يخرج حامد إلى الحاجز كلّ ليلة نحو الساعة الثانية والنصف لتفادي الازدحام الشديد والتأخير في ساعات الصباح، وبعد اجتياز الحاجز، ينتظر ساعات حتّى يتمّ نقله إلى العمل في الصباح. يستخدم حامد المبنى للراحة خلال ساعات الانتظار هذه. وكما أنّ حامد يعود ويبني المبنى مرارًا وتكرارًا، فإنّ إيتسكوفيتس يعود أيضًا لتصوير المبنى نفسه، بعد أن يتجمّع العمّال للعمل ويغادرون المنطقة. باختياره تجنّب تصوير الجنود والعمّال، الدوّارات، الأسوار وبقيّة صخب الحاجز، فإنّه يوجّه نظره عن المباني الثابتة لرتابة الحاجز إلى انعكاساتها في الصور المتغيّرة للمبنى العشوائيّ المسنود إلى شجرة زيتون.

في السيرة الذاتيّة لساهر ميعاري سبق البناء الفنَّ. عمل ميعاري في البناء قبل دراسته الفنون وخلالها، وحتّى اليوم يعرّف نفسه بأنّه فنّان-بنّاء. بالنسبة له، هذه أيضًا هي الفترة التي تبلورت فيها هويّته كعربيّ فلسطينيّ ساكن في إسرائيل. التقنيّات، الأدوات والموادّ التي استخدمها في الماضي في البناء يستخدمها اليوم في الأعمال الفنّيّة. الحديد والخرسانة اللذان بنى بهما الملاجئ والمساكن هي الموادّ التي يعرض بها الصراع الشخصيّ والقوميّ. العمل “إلّا بيت” عبارة عن مبنى على شكل غرفة مصنوعة من طبقات من شبكة حديديّة تُستخدم في مراحل تحضير الهيكل للخرسانة المسلّحة. أولئك الذين سيسكنون مستقبلًا في هذا المبنى لن يروا الشبكة ولن يعلموا بوجودها خلف الجدران المجصّصة والمطليّة بالأبيض. يعرضها ميعاري مكشوفةً، وفي داخلها كتل إسمنتيّة معلّقة. وبينما تكشف الشبكة عن حشوة فعل البناء، المخبّأة داخل عمليّة تحصين البيت الإسرائيليّ، فإنّ الكتل الخرسانيّة هي التذكير بالبيوت الأخرى، تلك التي أفرغت من سكّانها، والتي تمّ محوها وإغفالها.

تماثيل القبر لدى شاحر يهلوم عبارة عن قوالب من الجبس تصنعها على تماثيل تجمعها، صور أيقونيّة لحيوانات، نباتات وأغراض ساكنة. بعد صبّ الجبس، تفتح يهلوم القالب، تُخرِج التمثال الأصليّ، تعيده إلى أصحابه وتعود فتوصل القالب. وبهذا، فإنّ التمثال الذي تعرضه هو قبر فارغ لتمثال آخر. أحيانًا، يظهر القبر كما هو وأحيانًا يُستخدَم كنموذج لبناء درع خزفيّ وفقًا لمقاييسه. في المعرض، تقدّم يهلوم درعًا خزفيًّا لتمثال ظبية مخصّص لحديقة في مشتل في كفرياسيف، زوج من القفّازات الجبسيّة – قبر ليديها هي، وقبر لشجرة سرو مصنوعة من البلاستيك وعليها ببّغاء، من صنع الصين. عندما تقبر الشجرة في هيكل صلب، فإنّ يهلوم تحميها وتقيّدها في نفس الوقت، وبالروح ذاتها تشير أيضًا إلى كونها ساكنة، ولم يكن من الممكن أن تنمو أبدًا. نفس العمليّة التي تستحضر قيود الصورة تبدّل علاقات القوّة بين الحيّ والساكن. إلى جانب التماثيل تعرض يهلوم مطبوعات يدويّة تظهر فيها شتّى حالات الحياة، الموت، الدفن والتحنيط. تمّ بناء كلّ مطبوعة كهيكل مصنوع من الحياة، النامية والساكنة، بطريقة تلغي الفصل المتعارف عليه بين الحياة والموت، تخضع للبنى الهرميّة القائمة، تقوّضها وتسعى إلى إعادة بنائها من جديد.

كرميت جليلي
أمينة المعرض، ماجازين III يافا، 2023

[1] موشيه نينيو، “جزيرة الرؤية المشعّة، أو حوافّ العتمة المتصارعة”، أفشالوم كتالوغ معرض، تل أبيب: متحف تل أبيب للفنون، ص. 25. (بالعبريّة)

Absalon, Lecture, E’cole Nationale Superieure des Beaux- art, Paris, May 4 ,1993 [2]