دافيد عديكا – لداود مزمور

27.10.2022 - 21.04.2023
Curator: كرميت غليلي

“لكي يحدّد الإنسان مكانه، يجب عليه أن يُحرّر نظره من الانغمار في الأشياء والمناظر الموجودة “هناك في الناحية الأخرى” وأن يُعيد توجيهه إلى نفسه (الناظر) وإلى السياق الذي يعيش ويعمل فيه. لكي يرى الإنسان نفسه على هذا النحو، يجب أن تكون لديه وجهة نظر جديدة، خارج تيّار تجريبه الفوريّ” 

حاغي كنعان، حديث داخليّ

من خلال الاسم الشعريّ للمعرض يكشف دافيد عديكا عن مفتاح قلبه. الاسم لداود مزمور، والمشتقّ من سفر المزامير، يحتوي بداخله على سؤال شغل المفسّرين، حول العلاقة بين الإلهام والإبداع – ما الذي سبق الآخر، وهل حلّ الوحي الإلهيّ على الملك داود قبل أن يقول شعرًا، أم جاء الشعر أوّلًا ثمّ تلاه بعد ذلك الوحي الإلهيّ؟ يودّ عديكا أن يعرض هذه العلاقة المعقّدة والمتبادلة للمشاهد. 

معرض لداود مزمور هو معرض عن التصوير أكثر من كونه مجرّد معرض تصوير. ومن خلال بورتريهات المصوّرين، يتناول المعرض الشوق إلى التصوير وعلاقات النظرات بين المصوِّر والمصوَّر: يتقصّى أسئلة التمثيل، الجماليّة والذوق، ويعبّر عن أفكار حول الجسد وحول السياسة والمجتمع، من خلال تحدّي الطريقة التي نرى فيها التصوير وندركه. 

طوال سنوات إبداعه انشغل عديكا في صياغة لغة بصريّة من خلال أسئلة الهويّة. وهو يستعين بالكاميرا كأداة بحث بصريّة، ويوفّر له التصوير المسافة اللازمة لموضعة مركّبات هويّته الشخصيّة فيما يتعلّق بتاريخ الفنّ. يتعامل أرشيف صوره الأيقونيّة مع مسائل الهويّة الطائفيّة، القوميّة، المحلّيّة، الجنسيّة والثقافيّة، من خلال خلق بصمة مميّزة تحوّل المألوف إلى مجهول وبعيد المنال – أرشيف تصويريّ محلّيّ وشخصيّ هو في الوقت نفسه إنشاء لهويّة جديدة.      

في لداود مزمور، تنضمّ إلى هذه الأسئلة مسألة هويّة عديكا كمصوّر. إنّه يعرض 12 بورتريهًا لمصوِّرات ومصوِّرين، من بينهم أصدقاء وصديقات، زملاء وطلّاب/طالبات سابقًا. يكشف توثيق اللقاء بين اثنين من المصوّرين، مبدع ومبدع/ة، أنّ اللحظة التي تمّ فيها إنشاء البورتريه هي أبعد بكثير من الصورة النهائيّة التي يعرضها عديكا للمشاهِد. يستخدم عديكا هذه اللحظة لإثارة نقاش حول التصوير كوسيط. يجسّد كلّ بورتريه في داخله اللقاء بوجهات النظر ومجموعات الأعمال، المضامين والأفكار التي يتناولها موضوع الصورة. وعلى غرار اعتقاد القبائل الأصلانيّة بأنّ شيئًا ما من الروح أخِذ في لحظة التصوير، يطلب عديكا من المبدعين أكثر من الصورة ذاتها بكثير. من خلال أسئلة حول النظرة، حول من يتحكّم بها وحول كيفيّة استخدامها من قبل كلٍّ من المصوّر والمشاهِد، يظهر من خلال مجموعة البورتريهات بورتريه لصورة محلّيّة ومعاصرة. 

بعد قضائه سنوات من الممارسة اليوميّة للتصوير، كمصوِّر، مبدع وأستاذ، يستخدم عديكا البُعد عن المصوِّرين/المصوَّرين والنظرة الانعكاسيّة إليهم لرسم إحداثيّات يموضع بواسطتها نفسه ومجموعة أعماله هو في مجال الإبداع التصويريّ. إنّه يتعامل مع التصوير مثل مصوّر الطبيعة الذي ينطلق لتصوير أبناء جنسه تحديدًا، لكي يتعلّم منهم عن هويّته هو. 

إلى جانب البورتريهات، يعرض عديكا صور طبيعة ساكنة. زهور، تماثيل صغيرة، أصداف، كتاب، جرّة. هذه أشياء انتقاليّة بينه وبين المصوَّرين/ات، انعكاساتهم في صميم عمله. هذه لحظة نحتيّة في المعرض، يتمّ التعبير عنها في مساحة منزليّة تقع بين منزله ومنزلهم. قام بإنشاء فضاء المعرض بهيئة بيت انفصلت جدرانه بعضها عن بعض، شقّة سكنيّة مفكّكة. يُعيد الفضاء إنتاج المساحة المنزليّة التي جرى التصوير فيها، ولكنّه يخلق، بالتزامن، مساحة خادعة، لا يبقى المشاهِد معها المتحكّم الحصريّ بنظرته هو. من كلّ نقطة في الفضاء، ينكشف المشاهِد على روابط أخرى ونظرات أخرى، وتتبدّى قصّة أخرى مختلفة خلف كلّ جدار.  

تمّ التقاط الصور بكاميرا تناظريّة، بتنسيق كبير، بشريط تصوير، بهدف العودة إلى التصوير التقليديّ – الذي يتمّ إنشاؤه من الموادّ، الأفلام والمستحلب، ويتطلّب عمليّات من التطوير والتنميق. تضيف طبيعة مثل هذا التصوير لبنة حميمة أخرى إلى العلاقة مع المصوَّرين. الطقس الذي نشأ حول لحظة التصوير، مدّتها، اللحظة التي يختفي فيها عديكا خلف الكاميرا ويُطلَب فيها من المصوَّر أن يحبس أنفاسه، أن لا يتحرّك، كلّ هذه تنتج بورتريهًا غنيًّا بالتفاصيل تتيحها المادّة وكذلك العلاقة بين المصوِّر وموضوعاته. إنّها بورتريهات مادّيّة، تنميقيّة، ثلاثيّة الأبعاد تقريبًا. يقرب الجسم المصوَّر من مقياس 1:1. يجد المشاهد الذي يخطو في أنحاء الشقّة المفكّكة نفسه بجوار البورتريهات، وأحيانًا يكاد يصطدم بها. المسافة التي تمّ إنشاؤها بينه وبين الصور ليست المسافة العاديّة التي يموضع فيها الجسد نفسه أمام بورتريه بهذا الحجم، إنّها مسافة تفرض الحميميّة على المشاهِد. للحظة يكون من غير الواضح مَن الذي ينظر إلى مَن – المشاهِد إلى البورتريه أم البورتريه إلى المشاهِد، وتتمازج نظرة المشاهِد مع نظرة عديكا وفي الوقت نفسه تتحوّل إلى نظرة ثالثة، مختلفة.

كرميت غليلي
الأمينة الفنّيّة, لمغازين III يافا